الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء، والخبر محذوف أي: ورسوله بريء منهم، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وجوزوا فيه أن يكون معطوفًا على الضمير المستكن في بريء، وحسنه كونه فصل بقوله: {من المشركين}، بين متحمله، والمعطوف. ومن أجاز العطف على موضع اسم إنّ المكسورة أجاز ذلك، مع أنّ المفتوحة. ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة، ومنع مع المفتوحة. قال ابن عطية: ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام سيبويه: أنْ لا موضع لما دخلت عليه إنَّ لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى. وهذا كلام فيه تعقب، لأنّ علة كون إنّ موضع لما دخلت عليه، ليس ظهور عمل العامل، بدليل ليس زيد بقائم، وما في الدار من رجل، فإنه ظهر عمل العامل، ولهما موضع. وقوله: والإجماع إلى آخره يريد: أنّ ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع، وليس كذلك، لأنّ الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن، وأنّ حكم إنّ في كون اسمهن له موضع. وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على براءة، كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد. والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أنّ الأمان والعطاء يستعملان بمعنى الإيمان والإعطاء، ويضعف جعله خيرًا عن. وأذان إذا أعربناه مبتدأ، بل الخبر قوله: {إلى الناس}. وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله: {من الله ورسوله}. ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله: {وأذان}، وهو بعيد من جهة أنّ المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة، ومن جهة أن لا يجوز أنْ يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله، وقد أخبر عنه بقوله: {إلى الناس}. لما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يحج، فكره أنْ يرى المشركين يطوفون عراة، فبعث أبا بكر أميرًا على الموسم، ثم أتبعه عليًا ليقرأ هذه الآيات على أهل الموسم راكبًا ناقته العضباء، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال: «لا يؤدي عني إلا رجل مني» فلما اجتمعا قال: أبو بكر أمير أو مأمور، قال: مأمور. فلما كان يوم التروية خطب أبو بكر وقام عليّ يوم النحر بعد جمرة العقبة فقال: «يا أيها الناس إني رَسُولُ رَسُولِ الله إليكم»، فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين آية أو أربعين. وعن مجاهد: ثلاث عشرة ثم قال: «أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأنْ لا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأنْ يتم إلى كل ذي عهد عهده» فقالوا عند ذلك: يا علي أبلغ ابن عمك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل: عادة العرب في نقض عهودها أنْ يتولى رجل من القبيلة، فلو تولاه أبو بكر لقالوا هذا خلاف ما يعرف منا في نقض العهود، فلذلك جعل عليًا يتولاه، وكان أبو هريرة مع علي، فإذا صحل صوت علي نادى أبو هريرة. والظاهر أنّ يوم الحج الأكبر هو يوم أحد. فقال عمر، وابن الزبير، وأبو جحيفة، وطاووس، وعطاء، وابن المسيب: هو يوم عرفة، وروى مرفوعًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال أبو موسى، وابن أبي أوفى، والمغيرة بن شعبة، وابن جبير، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وابن زيد، والسدي: هو يوم النحر. وقيل: يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها، قال سفيان بن عيينة. قال ابن عطية: والذي تظاهرت به الأحاديث أنّ عليًا أذّن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره، ويتبعوا بها أيضًا أسواق العرب كذي المجاز وغيره، وبهذا يترجح قول سفيان. ويقول: كان هذا يوم صفين، ويوم الجمل، يريد جميع أيامه. وقال مجاهد: يوم الحج الأكبر أيام منى كلها، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنة حتى نودي فيهم: إنْ لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ووصفه بالأكبر. قال الحسن، وعبد الله بن الحرث بن نوفل: لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون، وصادف عيد اليهود والنصارى، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم في قلب كل مؤمن وكافر. وضعف هذا القول بأنه تعالى لا يصفه بالأكبر لهذا. وقال الحسن أيضًا: لأنه حج فيه أبو بكر، ونبذت فيه العهود. قال ابن عطية: وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وأمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذت فيه العهود، وعز فيه الدين، وذل فيه الشرك، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسد كان أمير العرب على أوله، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه، فحقه لهذا أنْ يسمى أكبر انتهى. ومن قال: إنه يوم عرفة، فسمي الأكبر لأنه معظم واجباته، فإذا فات فات الحج. ومن قال: إنه يوم منى فلأن فيه معظم الحج، وتمام أفعاله من الطواف والنحر والحلق والرمي. وقيل: وصف بالأكبر لأنّ العمرة تسمى بالحج الأصغر. وقال منذر بن سعيد وغيره: كان الناس يوم عرفة مفترقين إذا كانت الحمس تقف بالمزدلفة، وكان الجمع يوم النحر بمنى، ولذلك كانوا يسمونه يوم الحج الأكبر أي الأكبر من الأصغر الذي هم فيه مفترقون. وقد ذكر المهدوي: أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر رضي الله عنه. وحكى القرطبي عن ابن سيرين: أنّ يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وحج معه الأمم، وهذا يحتاج إلى إضمار، كأنه قال: هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حج رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وسمي أكبر لأنه فيه ثبتت مناسك الحج. وقال فيه: «خذوا عني مناسككم» وجملة براءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة، وجملة وأذان من الله ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، فافترقتا وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهدًا وغيره ناكثًا، وغيره مسلمًا وكافرًا، هذا هو قول الجمهور. قيل: ويجوز أنْ يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية، وبدليل مناداة عليّ بالجمل الأربع. فظاهره أنّ المخاطب بتلك الجمل الكفار، ولما كان المجرور خبرًا عن قوله وأذان، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم. ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول. تقول: برئت منك، وبرئت من الدين بخلاف مِنْ في قوله: {براءة من الله}، فإنها في موضع الصفة {فإن تبتم} أي: من الشرك الموجب لتبرئ الله ورسوله منكم. {فهو} أي التوب {خير لكم} في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار. {وإن توليتم} أي عن الإسلام {فاعلموا أنكم غير معجزي الله} أي لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم. اهـ. .قال أبو السعود: .قال الألوسي: ونقل الطبرسي أن أصله من النداء الذي يسمع بالأذن بمعنى أذنته أو صلته إلى أذنه، ورفعه كرفه براءة والجملة معطوفة على مثلها. وزعم الزجاج أنه عطف على {براءة} [التوبة: 1]، وتعقب بأنه لا وجه لذلك فإنه لا يقال: أن عمرًا معطوف على زيد في قولك: زيد قائم وعمرو قاعد. وذكر العلامة الطيبي أن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يعطف على براءة على أن يكون من عطف الخبر على الخبر كأنه قيل: هذه السورة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم خاصة وأذان من الله ورسوله {إِلَى الناس} عامة. نعم الأوجه أن يكون من عطف الجمل لئلا يتخلل بين الخبرين جمل أجنبية ولئلا تفوت المطابقة بين المبتدأ والخبر تذكيرًا وتأنيثًا، ونظر فيه بعضهم أيضًا بأنهم جوزوا في الدار زيد والحجرة عمرو وعدوا ذلك من العطف على معمولي عاملين، وصرحوا بأن نحو زيد قائم وعمرو يحتمل الأمرين، وأجيب بأنه أريد عطف أذان وحده على براءة من غير تعرض لعطف الخبر على الخبر كما في نحو أريد أن يضرب زيد عمرًا ويهين بكر خالدًا فليس العطف إلا في الفعلين دون معموليهما هذا الذي منعه من منع؛ وإرادة العموم من {الناس} هو الذي ذهب إليه أكثر الناس لأن هذا الاذان ليس كالبراءة المختصة بالناكثين بل هو شامل للكفرة وسائر المؤمننين أيضًا، وقال قوم: المراد بهم أهل العهد، وقوله سبحانه: {يَوْمَ الحج الاكبر} منصوب بما تعلق به {إِلَى الناس} لا باذان لأن المصدر الموصوف لا يعمل على المشهور، والمراد به يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ولأن الأعلام كان فيه. ولما أخرج البخاري تعليقًا. وأبو داود. وابن ماجه. وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس. وابن جبير. وابن زيد. ومجاهد. وغيرهم، وقيل: يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا، وأخرج ابن أبي حاتم عن المسور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن أبي الصهباء أنه سأل عليًا كرم الله تعالى وجهه عن هذا اليوم فقال: هو يوم عرفة، وعن مجاهد وسفيان أنه جميع أيام الحج كما يقال: يوم الجمل. ويوم صفين ويراد باليوم الحين والزمان والأول أقوى رواية ودراية، ووصف بالحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما وقع في ذلك اليوم من أعماله فانه أكبر من باقي الأعمال فالتفضيل نسبي وغير مخصوص بحج تلك السنة.
|